البغدادية.. تلفزيون الشعب .. غيث التميمي

البغدادية.. تلفزيون الشعب ..  غيث التميمي

 

أ
صدرت مجموعة البغدادية الاعلامية بيانا في الذكرى الثانية عشر لاطلاق بث قناة البغدادية الفضائية تؤكد فيه القيم الاخلاقية والوطنية الذي التزمت به القناة خلال مسيرتها الحافلة ، ورأيت ان التزاما اخلاقيا يحتم عليّ ان اكتب كلمة وفاء للبغدادية التي رفعت شعار ( لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه) المقتبس من قول علي بن ابي طالب رائد الوعي الحقوقي في الاسلام.



لم تحرص البغدادية في نهجها على شيء اكثر من المواطن العادي، لدرجة ان ضيوف برامجها السياسية كانوا في الغالب مواطنين عاديين ونشطاء حقوقيينًو كتاب متظاهرين ووجهاء اجتماعيتين و ما شابه، لم يحظر مسؤول حكومي في استوديوهات البغدادية الا وكان يواجه من النقد المعزز بالوثائق والمعلومات لدرجة اننا نشعر بالاحراج حين نتابعه.

البغدادية التي لم تغب عن اي تظاهرة او احتجاج حتى لو كان عدد المتظاهرين بعدد الاصابع، لدرجة ان اسمها اقترن بالتظاهرات وروادها، بل ان نشطاء التظاهرات والاحتجاجات كانوا يملكون زخما وقوة حضورا كبيرا بفضل البغدادية وكوادرها الشجعان، الذين تحملوا الكثير من اجل صوت الشعب.

البغدادية التي حاربت الفساد واستحواذ الاحزاب والقوى الطائفية على السلطة بعد 2003 لم تتردد في انصاف ضحايا انتفاضة آذار وغيرها من جرائم البعث الصدامي التي خصصت لها مسلسلات وبرامج مثل (سنوات النار) وغيرها، معلنة بشجاعة وشرف عن اعلام وطني لا ينحاز طائفيا مع الفاسدين والعملاء، ولا يتجاهل جرائم طغمة البعث الفظيعة.

البغدادية التي آمنت بالديمقراطية ودافعت عن التغيير وعدّت نفسها من ثمراته لم تبرر الاحتلال ولم تغمض عينها عن الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الاحتلال الامريكي والقوى المتحالفة معها، لكنها اسست لموقف واضح من الارهاب والميليشيات وعصابات الجريمة التي لبست ثوب المقاومة لتبرير جرائمها الغادرة بحق العراقيين.



البغدادية التي دافعت بقوة عن التجربة السياسية الديمقراطية في العراق لم تقدم الديمقراطية عبر تسويق سياسيي الصدفة في المنطقة الخضراء، ولم تمسح اكتاف من نهبوا ثروات العراق، بل قدمت إيمانها بالديمقراطية من خلال تجوال كوادرها ومراسليها في الازقة والشوارع بحثا عن صوت الكادحين والمحرومين والمقهورين والمظلومين، طرقت ابواب الصفيح في الاحياء العشوائية لاظهار صوت الارامل والايتام المكتومة.



البغدادية حملت هموم الفقراء والعاديين من الناس لا لاجل مصلحة سياسية او مكسب مالي، فلم نسمع من اشد معارضيها وكارهيها ان البغدادية ساومت او تقبلت الرشاوى السياسية، على العكس تماما، اجماع قوى المحاصصة والفساد وميليشياتهم والدول التي تقف خلفهم من شيعة وسنة وكورد ضدها، وتعاطف الفقراء والكادحين معها دليل صارخ على انها صوت الفقراء والمهدورين.

البغدادية القناة الجنوبية التي احبها الانباريون والموصليون وابناء كوردستان، ورغم ان اغلب  كوادرها الذين اعرفهم مسلمون الا انها منبر لكل الاقليات وتحظى بثقة واحترام الكنيسة والمندي ولم تفرق في خطابها يوما بين عراقي وعراقي على اساس ديني او مذهبي او عرقي او اثني.



البغدادية التي لم تخف يوما علمانيتها وليبراليتها لم تتردد في نقل الطقوس والشعائر الدينية من حضرة سيد الشهداء الامام الحسين او امير المؤمنين علي بن ابي طالب او حضرة مولانا الشيخ عبد القادر الكيلاني او التراويح من مسجد الامام ابو حنيفة النعمان او قداس الميلاد المجيد من كنيسة سيدة النجاة او المندي الصابئي او معبد لالش للايزيديين، بنفس حضورها في شارع المتنبي قبلة الثقافة والكتاب العراقي.

البغدادية احتضنت الفنان العراقي في الوقت الذي اغلقت جميع ابواب الاعلام العراقي بوجهه، وبقيت مصرّة على اظهار العراق الغزير بالموسيقى والمسرح والسينما والشعر والفنون الابداعية الاخرى، كما حرصت على التواجد في مراكز الابحاث العلمية والاكاديمية مسلطة الضوء على ابداع العقل العراقي النيّر.

اثنا عشرة عاما من العطاء والابداع والنضال من اجل التعبير الصادق عن العراق بكل آماله آلامه، وكل مرافقه ومعاناته، حضورها في المدينة لم ينسها اهلها في الريف، وحضورها في ساحات الاحتجاج لم ينسها ميادين الانجاز، كانت البغدادية عراقية مخلصة في زمن لا يراد للعراق ان يكون له صوت، الصوت للطوائف والكراهية وحدها.



لم تخسر البغدادية شيئا في اغلاقها لانها لم تكن قناة تجارية او دكانا اعلاميا للاسترزاق، لانها كانت ثورية في كل الميادين مدافعة عن العراقيين دون تردد او خوف او وجل، لكن العراقيين خسروا في غيابها الصوت الاعلى في مواجهة الظلم والفساد، الاعلام العراقي خسر منافسا شرسا رفع سقف النقد والمواجهة والاحتجاج لحدوده العليا.

رغم ان ظهوري في البغدادية الاقل بين وسائل الاعلام العراقية الاخرى، لكني اعتبرها الاكثر تاثيرا وفاعلية، ويؤسفني ان يفقد الرأي العام العراقي هذا الصوت الجنوبي الشجاع والوطني القوي والمؤثر، كما يؤسفني محاولة بعض الطائفيين من كتاب العقيدة والمغمورين من ( العلمانيين) الذين يحاولون حسدا وغيلة ان يختزلوا البغدادية بمقدم طارئ منحته البغدادية اهمية اساء لها، او يعمدوا بدفع من احزاب النهب والفساد وسياسيي الصدفة لاتهام رسالتها وتشويه صورة صاحب القناة العراقي الغيور الدكتور عون حسين الخشلوك، والحق يكفي البغدادية فخرا انها حين اغلقت لم تساندها دولة اقليمية او مخابرات دولية، ولم يستنكر اغلاقها سياسي فاسد او رجل دين طائفي، ويكفي الخشلوك فخرا انه صاحب هذه المؤسسة العراقية البطلة.
في هذه اللحظة العصيبة والمصيرية من تاريخ العراق

افتقد البغدادية وانا استذكر قول عنتر بن شداد العبسي:
بَنَيْتُ لهم بيْتاً رفيعاً منَ العلى  
 تخرُّ له الجوْزاءُ والفرغ والغَفْرُ
وها قد رَحَلْتُ اليَوْمَ عنهمْ وأمرُنا
 إلى منْ له في خلقهِ النهى والأمر
سيذْكُرني قَومي إذا الخيْلُ أقْبلت وفي الليلة ِ الظلماءِ يفتقدُ البدر
واستشعر المسؤولية الاخلاقية وانا اكتب كلمة شكر للبغدادية وصاحبها العراقي الشجاع وادراتها الحكيمة وكوادرها المناضلين الابطال، آملا ان تعود البغدادية لبيوت العراقيين، آملا ان تستعيد حركة الاحتجاج في العراق منبرها المخلص الشجاع الذي لم يساوم يوما .
مبارك لأهل البغدادية من الذين أسسوها او عبروا عن مواقفهم الشجاعة من شاشتها او آمنوا برسالتها الإصلاحية.
وكل عام وصوت البغدادية في ضمائر العراقيين الحالمين بغد افضل.

 





غيث التميمي


لندن 2017/9/10