قناة البغدادية الفضائية ، الدراما الراقية في النقل والاداء والتوثيق

تتشارك عوامل عديدة في تهيئة الوثيقة الحقيقية لكتابة التأريخ , وكثيرا ما استفدنا من القصائد والمرويات وكتب الرحالة والخطب وارشيف الصحف ودوائر الوقف وحتى قضايا المحاكم الشخصية والجنائية والاثار الشاخصة
والمندثرة والسير الشخصية والروايات والقصص والملاحم والبحوث ورسائل الدكتوراه , كل هذا يتم مزجه لاستخدامه في تصحيح مسارات مادة التأريخ التي تكتب احيانا تحت سطوة السلطة السياسية ورغباتها وايدلوجيتها واوامر السلطان كيفما كان , وكثيرا ما تسائلنا من الذي يكتب التأريخ ولماذا خضعت احداث كثيرة سابقة للتزوير والاسفاف وتغيير الحقائق التي ما زال بعض شخوص الاحداث على قيد الحياة في التاريخ القريب , لكنهم مع ذلك همسوا خوفا ان ما يجري تزويرا بحق مصداقية التدوين وتخريب متعمد لواقع جرى تهديمه لصالح سلطة تريد الاستئثار بالصدق والكذب في آن واحد .
وعبر هذه الزوايا الثابتة نعود لنؤكد ان من كتب ويكتب التأريخ أستعان بكل متضامنات المرحلة ليوثق احداثا بلا تشويه وهو ما لم يتحقق واقعا في الكثير من مهام لجان شكلت تحت عبارة “” أعادة كتابة التأريخ ” بل على العكس خربت تلك اللجان واقصت واضافت وهدمت واستفاضت على مصداقية الاحداث , فقط لارضاء السلطة الحاكمة وامزجتها المتباينة في كل حين .
هذا المدخل كان لا بد منه حتى نتحدث عن دور الاعلام المرئي الخطير والمؤثر في مجتمعه وبيئته ومشاريعه الحضارية الحاضرة والمستقبلية , ومما لا شك فيه ان اتساع مساحة الاعلام ومنافذه المتعدده اوجدت تربة خصبة لنماء الصالح والسيء , والكل مطروح للمتلقي ليقرر بنفسه ايهما يختار , اعتمادا على مرجعياته وثقافته ومرتكزاته المعرفيه , ومعروف ان الفرد العراقي انسان ذكي بفطرته وبغض النظر عن مكتسباته الثقافية قأنه يستطيع بذكائه الفطري تمييز الجيد والانحياز له بصدق وأيمان .
ومن هنا تبرز أهمية الاغنية الاجتماعية والسياسية والمسلسلات والبرامج الوثائقية والتحليلية والثقافية في مرحلة حرجة يعيشها العراق اليوم , وجاء ما حضرته ” فضائية البغدادية ” من أعمال عرضت في رمضان الكريم متناغما مع كل متطلبات العمل الفعلي الواجب للمرحلة الحالية بعيدا عن الاسفاف والتشهير والانحياز والتلفيق والمبالغات المفضوحة والنقد الهدام .
كل هذا جمعته البغدادية – العراقية الحقة , وقدمته على طبق من معلومة لمشاهد عراقي ينتظر من منفذ أعلامي ان يقنعه بالافضلية وليس بالضحك على وقته المستقطع لمتابعتها ولا لكي يكتشف اخر الامر انه تم استغفاله عن عمد لتحقيق هدف غير موضوعي تماما .
قدمت ” البغدادية ” ثلاثة أعمال وهي :
– أمطار النار – مسلسل من تأليف – صباح عطوان وأخراج عزام صالح
– بياع الورد – مسلسل من تأليف عبد الوهاب الدايني واخراج جمال عبد جاسم
– المصير القادم – تأليف قحطان زغير والمخرج عزام صالح
هذه المسلسلات الثلاث كانت حصيلة رمضانية تم الاعداد والتنفيذ لها بجدية مهنية مما جعلها تحظى برعاية واهتمام من المشاهد المحلي والعربي دون تأثيرات دعائية واعلانية مبهرجة .
وسنتناول هنا مسلسل ” أمطار النار ” لخصوصيته الجغرافية والتاريخية المهمة كونه تناول موضوع الاهوار والفترة الممتدة من (( 1968-1991 )) وكلنا كعراقيين وعرب نعرف أهمية تواتر ما حصل سياسيا واجتماعيا على العراق أبان تلك السنوات وخاصة بالنسبة لأهل الاهوار .
أهوار العراق ثروة كاملة ومهمة وخطيرة تم تجفيفها لاسباب سياسية وامنية وغسكرية تتعلق بفترة النظام السابق واذا ما استعرضنا جغرافية الاهوار فأننا نستطيع القول انها منطقة تشابه ” فينسيا ” ايطاليا والبندقية اذا انها تعتمد السكن فوق المياة والانتقال يتم بالمشحوف ” الزورق الصغير ” بين ارجاء الهور وسكانها الذين كانوا يقدرون في السبعينيات باكثر من 500 الف نسمة.
وتقدر مساحة الاهوار التي تمتد في محافظات البصرة والناصرية والعمارة بثلاثة ملايين دونم وكان الناس يعيشون في اطرافها وفي اعماقها في اكواخ متواضعة تصنع بطريقة تقليدية من القصب والبردى.
وتتعدد اسماء الاهوار في جنوب العراق من اهوار الحويزة التي تمتد بين محافظتي البصرة والعمارة وهي اكبر اهوار العراق ثم هور الحمار بين الناصرية والبصرة اما باقي الاهوار فهي في محافظة العمارة وهي هور السعدية والمشرح والصخري والفشك عودة وفاطمة وهور الصاروط وعشرات الاهوار الاخرى يحيط بهاالقصب والبردي ويطوقها وكانه يختفي بها عن العيون التي تتعقبها ,
وبسبب طبيعة هذا الوضع عانى سكان الاهوار من ملاحقات الحكومة ومطاردة من كان يلجأ للاهوار هربا من بطش السلطات والحروب العبثية التي ادخلت الشعب برمته فيها في الثمانينيات , لذا كان يلجا للاهوار من يرفض المشاركة بحرب لا طائل من ورائها الا الموت والدمار لكل الطرفين ولكي ينهي النظام السياسي الحاكم انذاك هذا الوضع الصعب الذي كان يشكل عائقا حقيقيا امامها لجأ الى فكرة تجفيف مناطقهم ابان الحرب العراقية الايرانية (80-1988).
و جففت جميع مناطق الاهوار التي كانت تعد احدى معالم وادي الرافدين الحضارية وتم تحويلها الى اراض جرداء وطرق تسلكها القطعات العسكرية. وهذا الوضع المأساوي دفع سكان الاهوار الى التمرد على السلطة.
وهذه الثيمة المهمة والتي لابد من ان يكتب عنها الكثير والمهم لم تكن هي الاساس في عمل مسلسل ” امطار النار ” بل سلط العمل الضوء على منظومة العادات القبلية والنزاعات الناشبة بين العشائر والتقاليد المتشددة التي تدفع بعدد من السكان الى الهروب باتجاه المدن القريبة هربا من جور تلك العادات التي تصل الى حد القتل عندما يتصل الامر بالشرف.ثم جاء تجفيف الاهوار ليكمل الضغط على المنطقة وسكانها فكان النزوح الاكبر عنها .
أهمية العمل :
هناك عدة نقاط مهمة لا بد من التركيز عليها ونحن نتحدث عن هذا العمل ومنها :
– تنفيذه داخل العراق وبالذات منطقة الاهوار في الظرف السياسي والآمني المتردي في العراق وباجواء صيف العراق الساخن .
– أعتماد فكرة مهمة وهي ” الهجرة المعاكسة ” لاهل الاهوار الى مناطقهم خاصة بعد زوال الخطر الذي ادى الى هجرتهم .
– عودة الحياة للمنطقة بمياهها وناسها وعشائرها تؤكد المحافظة على التراث وهو موضوع تفتخر وتؤكده اغلب الشعوب في كل المناطق في العالم .
– حث المسؤولين الحكوميين الان والمنظمات الانسانية على الاهتمام بأهل الاهوار اذ رغم مرور سنوات عديدة منذ التغيير السياسي الا أن مستوى الخدمات المقدمة أجتماعيا وصحيا وتعليميا واداريا لا زالت غير مؤثرة وفاعلة باتجاه تشجيع العودة للاهوار واستثمارها بصورة علمية صحيحة لما تحويه من ثروات هائلة واستثمارها سياحيا وعلميا بالطريقة التي تخدم أهل المنطقة والعراق بصورة عامة .
– قدم العمل مواهب شابة جديدة وابرز طاقات مواهب اخرى لم تكن قد اخذت فرصتها الحقيقية سابقا كما يليق بامكانياتها فجاء العمل ليظهر لنا كوامن ابداعات لم تكن مستغلة كما يجب فبالاضافة الى الفنانين المبدعين عبد الستار البصري وعواطف نعيم وعواطف السلمان وسامي قفطان وعبد الجبار الشرقاوي ابدع عدنان شلش ونجلاء فهمي ومالفنانة ميلاد سري واخرين لا حصر لهم من كادر ضخم شارك بالعمل من ممثلين وقنيين وكوادر ادارية وانتاجية اشرف عليها الفنان القدير قاسم الملاك بخبرته الابداعية وموهبته الخلاقة دائما .
وتشير المعلومات الحالية الرسمية الى عودة أكثر من 15 الف نسمة الى مناطق الاهوار وان هناك مساعي حكومية لانشاء محميات هناك للحد من عمليات اهلاك الموارد الطبيعية وستنفذ اول محميه في اهوار البصرة على امتداد مستطيل جغرافي بطول 11 كلم وعرض 4 كلم للمحافظة على الارث البيئي للاهوار.
ورغم ان المياه التي جففت سابقا عادت الان الى الاهوارلنعود فنرى روعة وجمالية المضائف التي تبنى على هيئة اقواس تنتصب عند حافات المياه وهي تمثل خصوصية للمنطقة تنفرد بها عن مناطق العراق الاخرى .
أن عمل ” أمطار النار ” بكل اهدافه الاجتماعية المهمة وتناوله لحياة تحفل بالاسرار والخبايا التي لم يسلط الضوء عليها سابقا بهذة الطريقة التفصيلية يجعلنا نتفائل بالدراما العراقية القادمة خاصة وان النوايا الامينة التي اشرفت على هذا العمل ودعمته وكانت تقف وراءه بكل أيمان استطاعت ان تستقطب مشاهدا عربيا كان بحاجة لمعرفة طبيعة المجتمع العراقي ومعاناته على ارض الواقع وليس على ارض النوايا الاعلامية المبيتة التي عانينا منها سابقا ونعاني منها حاليا بطريقة سافرة الى ان يحين الوقت الذي بات وشيكا لتنعم الحياة العراقية بصدقها وثباتها وتمسكها بمبدأ واحد الا وهو ” المواطنة الحقة ” والتي منها أنبثق مسلسل ” امطار النار ” .

 

بقلم: عالية طالب