هل يتحرر الإعلام بإغلاق قناة البغدادية ؟!

لقد مر الإعلام العراقي في فترات مظلمة تحت نير حكومات مستبدة كان آخرها حكومة البعث التي صادرت آخر حرف حر خطه ذلك الإعلام نهاية عام 1971 عندما قامت قواتها الأمنية بحملة اعتقالات طالت العشرات من الأقلام الوطنية ، وبذلك تكون قد دقت آخر مسمار في نعش الثقافة العراقية لتبدأ حقبة جديدة لأعلامنا على جانبي حدود العراق مع العالم الخارجي ، واعني بهما إعلام الداخل المبني على التزلف والانتهازية والكذب والنفاق المدهون بزيوت النفط التي هي الأخرى كانت قد قفزت أسعارها لتكون سببا مباشرا لنشأة ثقافة الكوبونات النفطية التي عمت الساحة العربية بأسرها ، أما الثقافة العراقية التي نشأت خلف الحدود ، فقد تشكلت أسسها وبانت ملامحها وارتفع صداها على يد مجموعة من مثقفي العراق الذين لم يرتضوا لأنفسهم أن يكونوا سببا لقتل الشعب وتسميم أفكاره والاشتراك في حملة مسعورة لخلق واقع إعلامي مداهن للسلطة البعثية وبوق لطغمتها الحاكمة ، وكانت نواة مشروع الإعلام البعثي السيئ الصيت أسماء ربما هي غائبة عنا نحن المتأخرين من أجيال الستينات وما بعدها ، لكن قطعا ذاكرة المثقفين من جيل الخمسينات ما زالت تحتفظ بأسماء الذل والهوان من أبواق السلطة التي كانت قد ساهمت في دفع المشروع الإعلامي البعثي ولم تبخل عليه بكل ما بجعبتها من حروف مسمومة وأبيات شعر لقيطة وكتب كانت تفرض على العراقي شراءها ليكون مصيرها تنور الخبز أو حاويات النفايات القذرة ومن هؤلاء المثقفين الأذلاء سعد قاسم حمودي رئيس تحرير جريدة الجمهورية وجعفر قاسم حمودي مدير مكتب الإعلام المركزي في القيادة القطرية للبعث وطارق حنا عزيز رئيس تحرير جريدة الثورة ومحمد سعيد الصحاف مدير الإذاعة والتلفزيون وحسن العلوي المستشار الإعلامي للمجرم صدام حسين و مصطفى عبد اللطيف الفكيكي رئيس تحرير جريدة الراصد وغيرهم

ربما لم يكن ضروريا التطرق إلى هذه الحقبة المظلمة من مسيرة الإعلام العراقي لأنها أيام سود لا يمكن نسيانها لكني أجد أنها ضرورة لكي نعيد الذاكرة لمن لا يريد أن يتذكر الأساليب الغادرة التي يُسرق فيها المثقف العراقي وضح النهار ولكي نثير حماسة من هو مُصر على الاشتراك في بناء الصرح الإعلامي المستقل في عراق ما بعد التغيير ونزيده قوة بأن ننضم إليه ونسانده ولا نسمح للمتزلفين والمنافقين أن يسرقوا ساحة الإعلام من مثقفي العراق مرة اخرى .

نحن اليوم في العراق نعيش مخاضا إعلاميا وثقافيا ستكون نتيجته الحتمية ” ولادة ” ، وسيساهم الجميع في رسم ملامحها ، فإذا سمحنا للمنافق أن يشترك في وضع أسس هذا الحمل ، سيكون بالضرورة وضعا مشوها ومولودا معاقا يعيد الكرة علينا لنعد له أيامه وننتظر شيخوخته وهرمه حتى نحتفل بموته بعد أربعين عاما أخرى من السنين لكي نبدأ في رسم ولادة أخرى وقطعا سوف لا يكون لنا نحن أصحاب التجربة أن نشترك فيها لأننا حيذاك لاتسمع لنا أصوات ولا توجد لنا شخوص إلا أرواحنا التي ستبقى تلعن الأيام التي سمحنا فيها للمنافقين أن يشتركوا في وضع ملامح حقبتنا الإعلامية كما هي أرواح ذلك الجيل الساكت الذي ساهم سكوته بذريعة الخوف أن تغتصب منجزات ثقافتنا وضح النهار .

لست مهتما كثيرا بقضية قناة البغدادية وأسباب إغلاقها بقدر اهتمامي بما ستؤول إليه قانونية الإجراءات التي ستتخذ بحق المسيء سواء أكانت السلطة أم القناة ، فالسلطة معذورة في قراراتها وإجراءاتها لأنها سلطة وكل سلطة تبتغي من يروج لها ويلمع مواقفها ويبرر أخطاءها وهذا هو قانون الكرسي والمُلك ، لذلك تجد السلطة ، أيّ سلطة ، تضع العراقيل أمام كل من يعارضها أو يكشف مستورات أخطائها ، وهذا ينطبق حتى على العالم المتقدم والدول ذات الديمقراطيات العريقة لكن الإجراءات تختلف بحسب الفسحة التي تتحرك بها السلطة وثغرات القانون التي تستثمرها لإفشال مشاريع ومؤسسات الإعلام المعارض ، إن المسؤولية كل المسؤولية تقع في المرتبة الأولى على الإعلامي والمثقف وبقدر ما ، رجال القانون ايضا ، أقول ، بقدر ما ، واعني الحالة العراقية لأننا لم نلمس قانونا وقضاءً عراقيا يشعر بالمسؤولية التاريخية التي تقع على عاتقه في رسم مستقبل العراق الديمقراطي ، فقد شهدنا انهزامه في معارك متعددة أمام ضغوط السلطة واللون الأخضر لعملة الرشا التي هي الأخرى تقنونت كما الفساد الإداري وفق نظام الدفتر الذي يساوي عشرة آلاف دولار أمريكي .

إذن هي مسؤوليتنا يا إعلاميي العراق ومثقفيه ، لابد أن نساهم جميعا في منع السلطة من تحديد هامش الحرية التي يعيشها العراق فقضية البغدادية اليوم ماهي إلا وسيلة سلطوية لكسر شوكة الإعلاميين وتخويفهم ، ولا تجعلوا من اختلافكم مع القناة سببا يمنعكم من الانتصار للإعلام والوقوف بحزم أمام توجهات الحكومة التي زجت بقضية البغدادية في معركتها مع الإعلام في خضم معاركها مع الإرهاب لتذر رمادا في عيوننا وتحصرنا في زاوية الاتهام فيما لو انتصرنا لقضيتها .

لا نريد أن نزيد خسائرنا في معركتنا من اجل ترسيخ العملية الديمقراطية ، فقد خسرنا توا معركة التظاهرات الشعبية عندما اتهم المتظاهرون في انتفاضة الكهرباء وزج الكثير منهم في السجون بدعوى أنهم مدفوعون من جهات تترصد بنا خلف الحدود ، فصار التظاهر اليوم في العراق معدوما بالرغم من كثرة دواعيه وأسبابه بعد أن تم تقنين إجراءات منح رخصته في سلسلة من التعقيدات الروتينية هي كافية لنزع جذوة الحماس لدى الراغبين بالتظاهر، إلا تظاهرات السلطة فرخصتها تصدر هاتفيا ..هذا إذا تطلب أصلا إصدار رخصة .

يمر إعلامنا اليوم بأزمة أكثر خطورة من أزمة الكاتم التي صارت تحصد أرواح المثقفين بعد أن تخلى مزارعونا مجبرين عن مهنة الحصاد , ألا تستحق هذه ألازمة أن نقف إزاءها ؟ وهل من مصلحة الشعب أن تفتعل حكومته المنتخبة معارك وهمية مع الإعلام ؟