انقسامات وتساؤلات في أوساط الجمهوريين بعد ترشح ترمب “المبكر” للرئاسة

أثار إعلان الرئيس السابق دونالد ترمب ترشحه المبكر لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية للمرة الثالثة، جدلاً مدفوعاً بالاعتقاد بأن هذا الترشح يمكن أن يحميه من الملاحقات القضائية التي تطارده، تحت مظلة التنديد بأي محاكمة على أنها ذات “دوافع سياسية”.

وتقود خطوة ترمب المبكرة الرغبة في إضعاف الزخم الذي بدأ يتصاعد بقوة خلف أبرز منافسيه المحتملين، وهو حاكم ولاية فلوريدا الجمهوري رون دي سانتيس، لكن إعلان ترمب فجّر انقساماً واسعاً داخل الحزب الجمهوري، وطرح تساؤلات بشأن فُرصه (ترمب) بأن يصبح الرجل الذي يمثل الحزب والولايات المتحدة كرئيس، بدلاً من أن يظل رجل الأمس.

منفذ مغلق
ورغم أن إعلان ترمب جاء في وقت مثير للفضول تزامناً مع أداء الحزب الجمهوري الباهت في الانتخابات النصفية، والذي اعتبر قادة جمهوريون أن الرئيس السابق يتحمل مسؤوليته، إلّا أن هذا الإعلان دفع البعض إلى التكهن بأن ترمب يحاول درء سلسلة من الملاحقات القضائية، من طريقة معالجته للوثائق الحكومية السرية في “مارالاجو”، إلى مزاعم تزوير قيمة ممتلكات بنيويورك، فضلاً عن تحقيق وزارة العدل باقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021.

الخبير القانوني ريناتو ماريوتي يرى في حديث لـ”الشرق”، أن قرار ترشح ترمب لن يحميه، لأن وزارة العدل لن تفتح تحقيقاً جنائياً مع ترمب إذا لم تكن مستعدة للنظر في توجيه الاتهام إليه، وأن المدّعي العام ميريك جارلاند قد يُفكر بعد إعلان ترمب ترشحه في تعيين مستشار خاص يتمتع بصلاحية التحقيق والمقاضاة في أمور محددة بشكل مستقل، وهو أمر، وفقاً لماريوتي، قد يستغرق بضعة أشهر وليس سنوات، مثلما حدث مع المحقق الخاص روبرت مولر الذي حقق مع ترمب خلال توليه للرئاسة.

لا قيود على ترشح ترمب
ومع ذلك لا تعتقد ستيفاني ليندكويست، أستاذة القانون والعلوم السياسية في جامعة ولاية أريزونا، أنه يمكن الآن وضع أي قيود على ترشيح ترمب، كما لا يمكن منعه من تولي المنصب الرئاسي حتى إذا وجهت إليه لائحة اتهام أو تمت إدانته أو سجنه، لأن الدستور الأميركي، لا يضع قيوداً على الترشح وهناك سوابق لمرشحين رئاسيين كانوا داخل السجن وحصلوا على مئات الآلاف من الأصوات.

كما ذكرت ليندكويست لـ”الشرق”، أنه سيظل هناك جدل قانوني بالنسبة للرئيس السابق بشأن إمكان اللجوء إلى البند الـ14 من الدستور في حال إثبات تمرده على دستور البلاد، إذ يتعلق الجدل حول تفسيرات متباينة للدستور وعدم وجود سوابق قضائية.

عوائق حملة ترمب
لكن في كل الأحوال، فإن ترمب الذي يعشق الأضواء ويريد الحفاظ على مكانته المركزية داخل الحزب، لم يكن ليتنازل عن الترشح للرئاسة حتى في الوقت الذي يصارع فيه الحزب تداعيات الخسائر المفاجئة في الانتخابات النصفية الأميركية، وفي المناصب المنتخبة بالولايات، حيث يُشير مستشاروه إلى أنه مصمم على استعادة إحساس حملته عام 2016، عندما ترشح كمتمرد ضد المؤسسة السياسية في واشنطن، واعتمد على مجموعة أساسية من المساعدين، رغم أنه لا يوجد مدير لحملته الانتخابية حتى الآن.

ورغم حضور إيفانكا ترمب وزوجها جاريد كوشنر حفل إعلان الترشح، إلّا أن كوشنر الذي كان واحداً من قلة من الأشخاص القادرين على التعامل مع أسلوب إدارة ترمب المتفجر دون خوف دائم من الانتقام، لن يُشارك في الحملة الجديدة، وهو ما يُفسره البعض بأنه دليل حي على ضعف فرص ترمب هذه المرة.

وفي حديث لـ”الشرق”، أشار بريان لانزا، الذي عمل في حملة ترمب عام 2016، إلى أن التحقيقات المفتوحة والمتداخلة مع الرئيس الأميركي السابق أدّت أيضاً إلى تقليل رغبة العديد من النشطاء السياسيين في الارتباط بشكل وثيق به، خشية أن يواجهوا أنفسهم خطراً قانونياً محتملاً.

مشكلات التمويل
ومن غير الواضح، ما إذا كان أي من المانحين الرئيسيين الذين دعموا ترمب في السابق سيعودون بالفعل إلى تمويل حملته الانتخابية، حيث قال المديران التنفيذيان لصندوق التحوط ستيفن شوارزمان وكين جريفين، إنهما لن يدعما ترمب في انتخابات عام 2024.

واشتكى مانحون آخرون سراً لصحيفة “نيويورك تايمز”، من أنهم لم يتلقوا أي تواصل من فريق ترمب، الذي بدأ عملية جمع أموال من صغار المانحين، ومن المتوقع أن يُشكل ذلك الجزء الأكبر من أموال حملته.

وقام ترمب بجمع 100 مليون دولار قبل إعلانه عبر حسابات سياسية متعددة، رغم أنه لا يُسمح باستخدام أي من هذه الأموال لتمويل ترشيحه بشكل مباشر. لذلك تسابق مساعدوه للتوصل إلى حلول بديلة من خلال لجان العمل السياسي المعروفة باسم “باك وسوبر باك” ومنها لجنة “أنقذوا أميركا” التي كان لديها 70 مليون دولار، ونقلت جزءاً من هذا المبلغ إلى لجنة “اجعل أميركا عظيمة مجدداً” التي يُشرف عليها المتحدث السابق باسم ترمب، تايلور بودويش.

غير أنه بموجب القانون الفيدرالي، لا يمكن لترمب استخدام لجنة حملته الرئاسية الجديدة لمصلحته الشخصية، ولهذا لا يزال يحتاج إلى كثير من التمويل الذي يبدو غير واضح المعالم، في حين يجمع خصمه المحتمل رون دي سانتيس حاكم فلوريدا الشيكات الكبيرة، إذ جمع في حملته كحاكم أكثر من 100 مليون دولار في الصيف الماضي، منها 10 ملايين دولار من متبرع واحد، وكان غالبية المتبرعين من أنصار ترمب المخلصين، ما يكشف عن ثقة كبار المانحين في استخدام أموالهم بطريقة مسؤولة من دي سانتيس، في مؤشر إلى أنهم لا يثقون في ترمب الذي أصبح يعتمد على المتبرعين الصغار ويستمرون في العطاء له.

“شبح ترمب”
في الأسبوع الماضي، تبيّن لأنصار ترمب المخلصين أنه لم يعد قادراً على تقديم أكثر ما يريدونه وهو السلطة، فقد توقع الجمهوريون فوزاً مفاجئاً بقدر ما توقع الديمقراطيون فوزاً كاسحاً لهيلاري كلينتون عام 2016، وتوقعت استطلاعات رأي عدة حدوث ذلك، في ظل تراجع شعبية الرئيس جو بايدن والاقتصاد التضخمي وأزمة الحدود.

وحينما كشفت نتائج الانتخابات الأداء السيئ للغاية لمرشحي الحزب الجمهوري، كانت تلك لحظة لا أعذار فيها، وأصبح التفسير المتماسك الوحيد لذلك هو “شبح ترمب”، الذي يُنظر إليه الآن بين قادة الحزب على أنه رجل الأمس وليس المستقبل.

وعلاوة على ذلك، تخلّى عن ترمب العديد من المدافعين والعناصر الداعمة له في وسائل الإعلام اليمينية، والتي سيظهر تأثيرها في الشهور المقبلة، بما في ذلك “فوكس نيوز” التي تُعد واحدة من أكثر الشبكات التليفزيونية جماهيرية، والتي قطعت جزءاً من بث إعلان ترشحه، وتحولت إلى الاستوديو والمراسلين تجنباً لبث ادعاءاته.

كما وصفته صحيفة “نيويورك بوست” المحافظة بأنه “أحمق”، واعتبر مذيعون مثل لورا انجرام وكورت شليشر، أن ترمب يُمثل المشاكل وهناك حاجة إلى مواجهتها.

انقسام الحزب الجمهوري
لكن الحزب الجمهوري يبدو الآن أكثر انقساماً مما كان عليه خلال الأعوام الماضية، والتي ظهرت بوادرها حتى قبل موعد الانتخابات، فقد انتقد ترمب حاكم فلوريدا، الذي كان فوزه بنحو 19 نقطة على منافسه الديمقراطي تشارلي كريست أحد أبرز النقاط القليلة التي لا لبس فيها للحزب في ليلة الانتخابات.

ولم تكن الخطيئة هنا أن ترمب انتهك الوصية الـ11 الشهيرة لرونالد ريجان، من أنه لا يجب أن تتحدث بسوء عن أي زميل جمهوري، لكن الخطأ أنه كان الرجل الخاسر في انتقاد الفائز، بينما ما تُريده قاعدة ترمب أكثر من أي شيء آخر هو “الفائز”، وما تراه القاعدة الجمهورية في دي سانتيس هو كل ما تُحبه في ترمب، من الرغبة في القتال والثقة بالنفس وازدراء رأي النخبة.

وظهرت أبرز مؤشرات انقسام الحزب الجمهوري خلال مؤتمر استمر لمدة يومين في فلوريدا حيث تحدث المحافظون والمانحون وكبار مسؤولي الحزب حول انتخابات التجديد النصفي المخيبة للآمال، ونقلوا الرغبة في خطة جديدة للحزب مع انتظار ترشح حاكم الولاية والمرشحين المحتملين الآخرين، إذ نقلت مجلة “بوليتيكو” عن الحاضرين قولهم إن “الوقت قد حان لكي يتقدم الجمهوريون إلى الأمام”.

وعبر تشارلي بيكر، حاكم ولاية ماساتشوستس الجمهوري المنتهية ولايته، عن اعتقاده أن التطرف أصبح مرتبطاً بالرئيس السابق وبالتيار الرئيسي للمرشحين المدعومين من ترمب الذين فشلوا في تحقيق نتائج جيدة.

كما أوضح حاكم ولاية أوهايو مايك ديواين، الذي دعمه ترمب في إعادة انتخابه عام 2022، أنه لن يدعم محاولة عودة الرئيس السابق، فيما قال حاكم ولاية نيو هامبشاير كريس سونونو، إن ترمب لن يُقدم رسالة جديدة ولن يكون هناك أي شيء مثير أو جديد، وسيكون في أضعف نقطة له من الناحية السياسية، ولن يكون بالضرورة المرشح الأوفر حظاً.

وتشمل قائمة المنافسين المحتملين 3 حكام ولايات على الأقل، وهم حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، وحاكم فيرجينيا جلين يونجكين، وحاكم ماريلاند لاري هوجان، وجميعهم شاركوا في حملات قوية في جميع أنحاء البلاد خلال الانتخابات النصفية.

هل تغير ترمب؟
لكن أياً من هذا وحده لن يكون كافياً لإبعاد أنصار ترمب، ومثلما لم تكن خسائر الجمهوريين في مجلس النواب عام 2018، والبيت الأبيض في 2020، ومجلس الشيوخ في العام نفسه، كافية لتغيير دعم مؤيديه، فمن غير المحتمل أن تختلف الصورة الآن، خاصة إذا أبدى ترمب قدراً من التغيير في خطابه السياسي، فرغم أن ترشيحه للرئاسة جاء بأسلوبه المألوف من التفاخر، والسخرية، إلا أنه كان يتمتع بشخصية جذابة وبلاغة غير معهودة في سعيه وراء السلطة، وأظهر درجة نادرة من الانضباط الذاتي.

وركز ترمب هجومه على الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن بدلاً من الجمهوريين والمنافسين المحتملين، وتحدث باحترام إلى حد ما عن الأقليات العرقية والنساء، ووضع نفسه على أنه أكثر من مجرد ضحية مظلومة، ولم يُكرر ادعاءاته بشأن انتخابات 2020، التي رددها على مدار العامين الماضيين، وألحقت ضرراً كبيراً هذا العام بالحزب، حتى أنه كسر السوابق وأشاد بزوجته وعائلته وأنصاره، واعترف على مضض بأنه سياسي.

وفي حين لم تكن نبرة ترمب قوية، إلا أن لديه الكثير من الثقة، فهو يحتل المرتبة الأولى في استطلاعات الرأي حول التفضيل الجمهوري للرئاسة، وجمع من أموال الحملة 100 مليون دولار، ولديه شعار لا يزال قوياً وهو “أميركا أولاً”، ويُقدم رسالة واضحة ومباشرة، ويبدو أنه لا يقل نشاطاً بدنياً وحاداً عقلياً عما كان عليه عندما دخل السياسة الرئاسية عام 2015.

مع ذلك يتوقع منافسو ترمب في ترشيح الحزب الجمهوري لعام 2024، أو يتخيلون أنه سيُهمش بسبب الأداء المخيب للآمال لحزبه في الانتخابات النصفية، ويصرون على أن الجمهوريين العاديين سيلومونه على الإخفاقات، رغم أنهم كانوا مثله في تأييد منكري الانتخابات الرئاسية، حيث قام كل من حاكم فلوريدا دي سانتيس، وجلين يونجكين حاكم فرجينيا، بحملة من أجل كاري ليك وبليك ماسترز في آريزونا وفقاً لمجلة “بوليتيكو”.

الاختبار الصعب
وبحسب مقال نشره المحلل السياسي ديفيد فروم، في صحيفة “ذي أتلانتيك”، فإن السؤال الآن هو، إلى أي جانب سيصطف القادة الجمهوريون، فخلال أشهر من الآن وحتى التصويت عام 2024، من المُرجح أن يواجه ترمب خطراً قانونياً وجنائياً ومدنياً، فهل سيلتفون للدفاع عن ترمب؟ مثلما فعلوا عندما فتش مكتب التحقيقات الفيدرالي منزل الرئيس السابق في مارالاجو بحثاً عن وثائق حكومية مسروقة، ومثلما أيدواً مزاعم بلا دليل بأنه ضحية لاضطهاد الدولة، ودفعوا حزبهم لحماية الرئيس السابق، فإذا كرروا هذا الأداء، سيصبح ترمب “شهيداً” طوال الوقت.

أما إذا كانوا يتوقون إلى مشاكل ترمب القانونية لاستبعاده، فسيتعين عليهم إبلاغ مؤيديهم بأن هذه المشاكل القانونية عادلة ومشروعة، وليست أعمال اضطهاد سياسي من قبل إدارة بايدن أو المدعي العام في نيويورك، وإذا وقف القادة الجمهوريون إلى جانب القانون، فسيدعمون أنفسهم، ويبتعدون عن الممارسة التي أوصلتهم إلى مأزقهم الحالي.