مكافحة “الشعب” أم مكافحة “الشغب” في العراق – حامد الكيلاني

انتقل العراقيون في ذروة ثورة الحرّ التموزية المتكررة إلى تلمّس طريقهم نحو ثورة الأحرار عندما ارتقت حناجرهم الغاضبة لتغادر تفاصيل الخدمات إلى جذر أزمتهم ومأساتهم ومصيبتهم، لتنال من الاحتلال الإيراني، وذلك بالهجوم على مقرات الأحزاب ذات الماضي الراسخ في خيانة الوطن والأمة.

مقابل ثورة الأحرار تداعت قوى المطافئ من المحللين والصحافيين والإعلاميين والسياسيين، بل حتى من القيادات المتواطئة مع عملية الاحتلال والمحاصصة والتي سعت إلى تقديم نفسها في مناطق فكرية محايدة أو منتقدة للأداء السياسي الحكومي، لإرباك الثورة ومحاولة التصيّد في خطاب عقلنة الشارع المنتفض بالحديث عن مفارقة حرمة المال العام ومؤسسات الدولة ومرافقها، خوفا من أن تنالها أيدي المتربصين المندسين في التظاهرات؛ والحجة أنها أموال الشعب وسيدفعون ثمنها من أموال نفطهم وخزينتهم.

ليس هذا فقط، فالمبررات والأصوات الانتهازية ورد معظمها من المنتفعين والكتبة في المكاتب الاستشارية لإدارة دولة حزب الدعوة والذين هم بحق بعض فيلق الإعلام في الحرس الثوري ومن المفكرين الذين طالما نظروا لولاية الفقيه وصادرات الخميني ومن بعده الخامنئي ووصلت ببعضهم، وهو مداد فخر لهم ولا يحتسبونه إلا من مكارم التذلل، أن يتوسلوا بتقبيل شسع نعل المرشد ليشمل العراق برحمته ويزيل الخونة من حكم العراق ويقضي على الفاسدين واللصوص.

هل هناك التباس أكثر من هذا في مفاهيم الانتماء إلى مشروع الاحتلال الإيراني؟ لذا تكالبت مكيفات النظام السياسي لتبريد أعصاب المنتمين إلى ثورة الحرّ لعزل أصوات الأحرار من بينها، ثم النيل منهم كل على حدة. فالجموع الثائرة لدرجة الغليان من نقص الكهرباء وانعدام الماء الصالح للاستخدام البشري وقلة فرص العمل، يمكن التعامل معها وضبطها بوسائل بدائية وبأسلوب الترضية العشائرية أو الأبوية والأوامر الورقية لرئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي استمع جيدا للغاضبين وهم يهتفون ضده وضد حزبه ونظامه وضد عمالتهم.

كانت أصوات المتظاهرين يتردد صداها في إيران، حيث تجتاز شط العرب المبتلى بذاكرة جثث الحرب للآلاف من شباب العراق الذين أجلَوا بشجاعة نادرة لن يعرف فصولها إلا من تعايش معها وذاق ويلاتها وجرّب طعم أفواج الراحلين من الأصدقاء، هؤلاء الرجال أجَّلوا وصول الأحزاب الإيرانية وميليشياتها الطائفية الحاقدة على كل أهل العراق، وبالذات من هم من عرب الفرات الأوسط والبصرة وجنوب العراق عموما قياسا إلى تجربتهم في ردع العدوان الإيراني إبان حرب الثمانينات.

لأنهم بجهالتهم يسقطون من حساباتهم الطائفية الأكثرية من أهل الجنوب وينظرون إليهم كمجرد كتلة بشرية في خدمة أهدافهم وعلى أهبة الاستعداد لتكون، بإشارة من فتوى مرجع ديني أو رئيس ديوان عشيرة أو زعيم حزب طائفي، جزءا من ميليشيا مسلحة تحت إمرة خدم ولاية الفقيه.

تناست أحزاب السلطة الحاكمة في عراق ما بعد احتلال العراق أن أهل الجنوب هم من أبناء العروبة، والأكثر حماقة أنهم تجاهلوا أن يوفروا لهم أبسط مقومات العيش والبقاء على قيد الحياة. رهانهم أن الولاء للمذهب والطائفة يجَبُّ الحياة ويُغيِّب الأصول والانتماء للوطن ولتاريخ الأسر الكريمة وكفاح رموزها سواء في الثورة على المحتلين أو في نضالاتهم السياسية والفكرية والفنية والدبلوماسية.

الغوص في أرومة أهل العراق غوث لكل من ترتبك لديه وحدة المواطنة والمصير، فأشجار الأنساب تختلط فيها الجذور والفروع بأمة العرب، بل إنها تمتزج بالقوميات الأخرى والمذاهب الإسلامية وتتعداها، لمن لا يدرك معنى وأسباب التنوع في العراق، إلى الأديان بحكم الاحتماء وأعراف “الدخيل” والاستجارة بملاذ آمن من خوف وعطش وجوع.

ثلاثة أطواق يتحدث عنها حيدر العبادي أثناء لقاءاته في مدينة البصرة لحماية مقرات أحزابهم ومنازل الفاسدين من قادتها وبظلهم تحضر حماية المنشآت النفطية والحكومية، وهذه الأطواق يصفها الناطق باسمه بنعومة لا نملك معها إلا الابتسام لهذا القرف الوظيفي المذل الذي يبرّئ القتلة من جرائم قتل العراقيين وتدمير مدنهم وتجويعهم والتفريط بكرامتهم.

ماذا لديهم لمكافحة “الشعب”؟ استعمال خراطيم المياه من السيارات الحوضية التي اقترحها أحدهم لحل مشكلة عطش البصرة، لكنّ العراقيين باتوا يفرحون بالمياه لمكافحة شغب الحرارة؛ ولديهم أيضا القنابل المسيلة للدموع والهراوات والرصاص المطاطي والكاميرات التي تلتقط المندسين لملاحقتهم بعد أن يهدأ تموز، ولديهم كذلك الميليشيات بواجباتها الوطنية والسياسية والتأديبية، ومنها ما يمكن أن يأتي كدعم من بيروت أو من طهران أو من سوريا، أو يتم تناقلهم كأفواج زوار للعتبات المقدسة.

حكمة نوري المالكي، زعيم حزب الدعوة الإيراني، ينبغي أن تَشرح لمن التبس عليهم الأمر في لهيب تموز 2018؛ فالحرب الأهلية التي توعد بها العراقيين في حالة تأخير الانتخابات عن موعدها أو إعلان نتائجها وتحذيره المتكرر من مخاطر الفراغ الدستوري، تتحقق في قطع إمدادات الكهرباء من إيران، وقطع الأنهار العذبة من إيران إلى البصرة، وقطع أي احتمال لحدوث تغيير في النظام السياسي الحاكم حتى ولو من داخل الكتل الطائفية، لأن ذلك سيؤدي إلى انفراط تدريجي في الولاء المطلق لأوامر ملالي طهران بفعل الزمن وتآكل الجيل الذي قاتل ضد الوطن الأم.

ما أقدمت عليه ثورة الأحرار ضد عملاء المحتل الإيراني من تجربة دمائها، أن كل أطواق الحماية والتمترس بسلاح الدولة أو بالأحرى سلاح الميليشيات وصبات الكونكريت ومعها القوانين وأنظمة وأجهزة العنف، لن تجدي يوم تتسع الثورة إلى عمل وواجبات يومية، حينها لن تحاصرها دولة تتعاطى بالفساد والرشاوى حتى مع إخماد مطالب مشروعة تتعلق بتوفير المياه أو الكهرباء أو العمل.

الميليشيات الرئيسية تصف وجودها بالعمل السياسي كقوة للدولة وترصين لأمنها، بمعنى أن الإرهاب ستتم قطعا السيطرة عليه إن بانتفاء الحاجة للعمليات الإرهابية أو بتوجيه الإرهاب لأهدافها في التوقيت والمكان المطلوبين أو بمقارعة العصابات والمافيات لأنها فعلا لا تخفى عليها وسائل نضالها السري والعلني حيث التنسيق والاتصال والتكليف والاغتيالات وكواتم الصوت ومكائد الإيقاع بين الجماعات السكانية في خبرة طويلة أثمرت عن دولة ونظام حكم يعرفان كل صغيرة وكبيرة عن كيفية تهديم وتخريب وإشعال الحرائق في مؤسسات الدولة أو تصفية الآخرين.

لكن الحياة تنتصر في النهاية حيث لا حياة دون ماء أو طعام أو عمل أو كهرباء أو كرامة إنسانية. العراقيون لا يمكنهم العيش على وقع سياسة بقاء الحال على ما هو عليه، ليشربوا الطائفية ويتناولوا الفتاوى ويختلفوا على العمالة للإيراني أو الأميركي، أو ليقتتلوا في ما بينهم لينتهوا إلى مقابر توحدهم كإخوة يتصافحون تحت ثرى العراق ويعتذرون لبعضهم.