هل تركت قناة البغدادية فراغا في الإعلام الاستقصائي وهل يتعافى الإعلام بالغلق؟

استطاعت الأجهزة المعنية في الحكومة العراقية من غلق ثلاث قنوات فضائية في أوقات متقاربة وهي العباسية والرافدين والبغدادية.

وجاء غلق القناة الأولى بناءا على دعوى لدى القضاء الأردني وعلى أثرها تم إلقاء القبض على صاحب القناة الأولى والعاملين معه من قبل السلطات الأردنية وبعد توقيفهم قرابة أسبوعين تم إطلاق سراحهم لعدم كفاية الأدلة ضدهم , ولكن القناة لم تعود إلى بثها لحد الآن ويبدو إن صفقة  قد تم عقدها بما يضمن انقطاع البث , في حين إن القناتين الثانية والثالثة تم إغلاقهما بطلب من الحكومة العراقية وبالتنسيق بين الحكومة المصرية وإدارة القمر الصناعي النايل سات , وفي واقع الحال فان هوية ورسالة العباسية والرافدين تختلف عن البغدادية ولكن التهمة واحدة وهي الغطاء الطائفي والتشجيع على الإرهاب ومعاداة العملية السياسية وعدم الالتزام بلوائح البث التلفزيوني في العراق .

ورغم إنني لم اعمل في إحدى هذه القنوات يوما , إلا إن لي زملاء عملوا في البغدادية لسنوات وواكبوا عملها عن كثب , فقد تأسست البغدادية في بغداد وهي واحدة من القنوات التي يشار إليها بالاستقلالية وعدم ارتباطها بأحزاب أو كتل داخل وخارج العراق , وهذا التصور نقله لي الزملاء الذين أشرت إليهم حيث أعلموني بأنها تمول من رجل الأعمال العراقي المعروف الدكتور عون حسين الخشلوك الذي يقيم خارج العراق , وقد كانت القناة في بداية انطلاقها تهتم بالشؤون الاجتماعية والثقافية وقضايا الشباب وجزءا من بثها يتضمن جوانب سياسية , وقد استطاعت أن تستقطب خبرات وطنية معروفة في كفاءتها الإعلامية رغم إنها تكن تدفع لهم أجورا مغرية وقد يعني ذلك إن القبول بالعمل بها هو من باب القناعة بهويتها الوطنية والمهنية.

وكرست هذه القناة جزءا من اهتماماتها للمواهب الشابة والدراما العراقية , ولكن سرعان ما تحول جزءا من اهتماماتها إلى البرامج السياسية وربما ساعدها على ذلك وجود معدين ومقدمين على درجة مهمة من الكفاءة والخبرة مثل كاظم المقدادي الذي تركها فيما بعد وعبد الحميد الصائح ونجم الربيعي وعماد عبادي إلى جانب مقدمين في قضايا وهموم الناس أمثال شيماء ونغم وميناس, دون أن ننسى خبرات من يعمل خلف الأضواء مثل خيرية منصور, وقد افتتحت مكتبا لها في سوريا لتكون على مقربة من المواهب العراقية العالية المغادرة بسبب الأوضاع الأمنية وبعد الأحداث التي حصلت في سوريا انتقل مكتبها إلى مصر في قلب مدينة الإنتاج الفني وهو ما جعلها تستفيد من الخبرات العربية الموجودة هناك إلى جانب الخبرات العراقية .

وقد تعرضت القناة إلى الاتهامات بعد نقلها لإحداث الاعتداء الذي تعرضت له كنيسة سيدة النجاة في بغداد وعلى اثر ذلك تم غلق مكاتبها في بغداد وتحول موضوعها إلى مجلس النواب وأعيدت تلك المكاتب لعملها فيما بعد , ونقطة التحول في عمل هذه القناة هو تحولها إلى منهج الصحافة الاستقصائية حيث تحول عملها إلى الميدان وتمت استضافة العديد من الشخصيات السياسية والأكاديمية , وضمن المنهج ذاته برز في برامجها المقدم أنور الحمداني الذي أعلن عن التزامه بشن حملات في فتح ملفات الفساد الإداري والمالي ومطاردة الفاسدين مع الاستمرار في البرامج الأخرى من بغداد أو القاهرة أو لندن , وتحولت اهتماماتها من الجوانب الدرامية والاجتماعية والشبابية إلى البرامج السياسية التي تناقش مواضيع ساخنة وغاية في القرب من اهتمامات وهموم الوطن والمواطن العراقي .

وقامت القناة بتغطية التظاهرات والاعتصام في ساحتي التحرير والفردوس أو في محافظات العراق الأخرى , وكانت سندا إعلاميا للمعتصمين وتنقل طلباتهم وهمومهم والصعوبات التي تواجههم , ولسخونة المواضيع التي تبناها برنامج أستوديو الساعة التاسعة فقد استقطبت القناة مشاهدات عديدة من المواطنين , وبعضهم أصبح شريكا في هذا البرنامج من خلال رفده بالوثائق والوقائع التي تدعم ما يتم طرحه من مواضيع , وبصراحة أصبح هذا البرنامج يؤرق الذين هم موضع شبهات في الفساد ومتورطين فيه , وقد جرت محاولات عديدة لإيقاف بث البرنامج والقناة تحت ذرائع مختلفة منها عدم المشروعية في عرض وثائق رسمية والتهمة بالإساءة والتشهير ببعض الرموز الإدارية والسياسية , وتناولت تلك الملفات اغلب القطاعات ومنها الدفاع والداخلية والتجارة والتربية والكهرباء والصناعة وغيرها وقضايا مهمة مثل زيت الطعام والأسلحة الفاسدة وبسكويت التغذية المدرسية وأمور عديدة يصعب حصرها في هذا المكان .

وبموجب قرارات صادرة من جهات رسمية تمت مداهمة مكاتبها في بغداد ووضع اليد على سيارات النقل الخارجي SNG  كما تمت مداهمة  مكاتبها في الحافظات وسحب تراخيصها ومنعها من التواجد الميداني في مختلف الفعاليات , إلا إن القناة استمرت بعملها من خلال إجراء لقاءات متخفية في بغداد أو الاستفادة من مكاتبها في أربيل أو في خارج العراق , وقد ارتفع صوت القناة بعد معارك الفلوجة والانبار وتبنت مبادرات لتخفيف الأزمة من خلال اللقاءات مع الأطراف المعنية بالموضوع من الوجهاء وأبناء أو شيوخ العشائر , وتعرض مقدم برنامج أستوديو التاسعة إلى مختلف أنواع الاتهامات والتشهير بسيرته الذاتية والمهنية , ولكنه لم يزداد إلا إصرارا على المضي قدما بالمنهج الذي اختارته القناة ولم يستطع أحدا أن يقدم دليلا مؤكدا لسعي القناة إلى ممارسة الابتزاز وغيرها من الأساليب من وراء طرحها لتلك المواضيع .

ولعل من ابرز المآخذ التي سجلت ضد القناة , هو اقتصارها على استضافة الخصوم وتبني سياسة مقصودة لإثبات فشل الحكومة ومصادرة أي منجز حققته سواء كان صغيرا أو كبيرا, ناهيك عن شنها لحملات خلال فترة الانتخابات وصفت بأنها تنطوي على درجة كبيرة من التحريض ضد كتل معينة ومجاملة كتل أخرى ولجوئها إلى التنكيل والتلاعب بالألفاظ والتعليق على بعض التصريحات بشكل مهين ويخالف الحقيقة ووقوفها ضد ما يجري من معارك في الفلوجة والانبار ومحاولة تشويه صورة القوات المسلحة وإحباط معنويات العاملين فيها والتزام الخطاب المتشنج والتعبير عن الآراء نيابة عن الآخرين وإعطاء صورة مشوهة لأجهزة الدولة في جوانبها التشريعية والقضائية والتنفيذية (وما ذكرناه لا يمثل بالضرورة وجهة نظر الكاتب بل هو نقلا عن ما كان يقال عن القناة من وجهة نظر المنتقدين ) .

وانتهى الأمر بهذه القناة إلى ما وصلت إليه في إغلاقها وسحب ترددها ومنعها من العمل في مصر بعد أن منعت داخل العراق ( عدا إقليم كردستان ) , ولم تكن تلك النهاية بالضربة القاضية بل هي عبارة عن جولة من سلسلة المحاولات العديدة التي انتهى بعضها بتحقيق الفوز لصالح القناة قضائيا ولكن الصوت الآخر فاز عليها في نهاية الآمر , ففي ممرات عديدة تعرضت القناة إلى التشويش مما اضطرها لاستخدام ترددات بديلة لكي تواصل بثها للجمهور , ولعل ما ترك بعض علامات الاستفهام في تلك النهاية إنها لم تقترن ببذل الجهود للحصول على بدائل أخرى لمواصلة البث حيث تفاجأ الجمهور بالرسالة التي بعثها صاحب القناة السيد الخشلوك الذي أعطى الإشارة إلى التوقف عن محاولات إعادة البث واصفا ما يحصل بأنها استراحة المقاتل, رغم إن القناة تمتلك إمكانيات تقنية ومالية للانتقال إلى بدائل أخرى لمواصلة البث في مواقع وأقمار وترددات أخرى .

ومن باب الإنصاف والحيادية , يمكن القول بان اغلب المتابعين لبرامجها لم يجدوا خطا طائفيا طاغيا في منهجها كما إن عرضها لوجهات نظر الأطراف المتعددة واستضافتها لأعداد كبيرة لمن هم داخل العملية السياسة وخارجها , يؤيد كونها لم تكن تشجع على الإرهاب بل كانت تنبذه فغالبا ما كان خطابها يمتزج بالدعوة إلى التفاهم والحوار بدليل تبنيها العديد من المبادرت , ولكن الحماسة والانفعالية والشخصنة في الطرح هو الذي جعل هذه الأمور تسند إليها اخذين بنظر الاعتبار إن أية قناة ليس بالضرورة أن ترضي الجميع أو تنفر الجميع , ومن وجهة البعض من المهتمين في الإعلام  فانه كان بالإمكان أن يعاد النظر في أسلوب العرض وليس بمحتوياته لإفهام المعترضين بغاياتها وبما يضمن إكمال رسالتها , فقد تركت البغدادية فراغا إعلاميا في مجال الصحافة الاستقصائية الذي تبنته بشكل جدي على مستوى الإعلام المحلي.

 

وكان بودنا أن يتم إطلاع الجمهور من خلال الهيئات التنفيذية أو القضائية عن الأسباب والمسوغات لإغلاق القنوات الثلاث ( العباسية , الرافدين , البغدادية ) أو أية قناة يتم إيقافها أو إغلاقها والطريقة التي تتبع في إلاغلاق وذلك تطبيقا لمبدأ الشفافية ولكي تستفيد القنوات الأخرى بان لاتتكرر الأسباب أو الأخطاء ذاتها , لاسيما وان الجمهور قادر على تشخيص ما تطرحه القنوات المختلفة من خطابات معتدلة أو سواها , وجمهورنا ليس قليل المعرفة فلديه معلومات تفصيلية عن ملكية الفضائيات وجنسياتها وجهات تمويلها ومن يحمي ظهورها واغلب الجمهور قد تعلم إلى من يصغي ومن أية قناة يعتمد الحقيقة أو يسخر من سذاجة أكاذيبها , ونتمنى لإعلامنا المحلي كل التوفيق وهو يعيش تجربة الإعلام الديمقراطي الحر الذي حرمنا منه لعقود ويفترض ان نمارسه بمهنية لخدمة أهلنا والإسهام الصادق في صياغة العملية الديمقراطية في العراق.

 

بقلم: باسل عباس خضير