انقذوا البصرة – مشرق عباس

هو شعار رفعه العراقيون بالتزامن مع اكتشاف المئات من حالات التسمم بين الأهالي، بسبب ارتفاع نسب التلوث في مياه البصرة، وكانت سبقته تظاهرات حول تردي الخدمات في المدينة، وانقطاع الكهرباءعنها مع احتلالها صدارة مدن العالم الأعلى حرارة لعدة أسابيع مضت. والبصرة لمن لا يعرف مزاياها، ليست فقط منفذ العراق البحري الوحيد، ومكمن معظم ثروته من النفط والغاز والمعادن، وملتقى نهريها اللذين يشكلان شط العرب، ويغذيان أعرق سلالات النخيل، بل هي قبل كل ذلك مركزاً حضارياً تاريخياً أغنى هوية العراق، وفرادته، وتنوعه الثقافي والفكري.

إن يستغيث سكان البصرة الذين تضرب الأمثال بحلاوة لسانهم، وطيب معشرهم، وحسن أخلاقهم، وصبرهم وهم ينامون على بحيرات النفط تحت أرضهم الساخنة، وتؤرخ جدران منازلهم التي صدعتها القذائف، وصدورهم التي عبث بها اليورانيوم المنضب، لتاريخ من الحروب الظالمة، فتلك مفارقة لا يمكن فهمها إلا في العراق الذي تقف حكوماته أمام حق البصرة بمياه صالحة للشرب متسمرة منذ عقود، كأنها تواجه معادلة رياضية غير قابلة للحل.

يشعر الأهالي في السنوات الأخيرة بأن مدينتهم تنهار أمام اعينهم، تموت رويداً مزارعها العامرة، تكنسها المشروعات النفطية المتنامية وحدود أمن الشركات الأجنبية من جهة، وتجور مياه الخليج المالحة على شطهم ونهريهم فتكاد تمحو ما تبقى من جهة ثانية.

تسمرت الحكومات العراقية أمام قطع إيران المتسلسل لروافد دجلة وشط العرب، وتسمرت أمام استمرار تركيا ببناء السدود العملاقة التي تدفع البصرة أكبر أثمانها، كما تسمرت أمام اتهامات فساد لمعظم المشروعات الخدمية والاستثمارية التي تم تسليمها إلى أصدقاء الأحزاب من دول مجاورة وثبت أنها مشروعات نهب منظم، وهي تتسمر اليوم أمام سؤال يطرحه شباب لم تمنعهم أيام عيد الأضحى من التظاهر تحت الشمس الحارقة: «هل يلام من يتعرض للإبادة على غضبه؟».

لا تريد الأحزاب المحتشدة في بغداد لتقاسم مناصب الحكومة، أن تستمع إلى استغاثات البصرة، بل أنها لا ترغب بالاستماع إلى استغاثة كل العراقيين. لا يشعر من يضع جواز سفره في جيبه مستعداً للرحيل بقارب نجاة إلى خارج الحدود ببوادر غرق السفينة، أن وظيفته الحقيقية هي ترميم الثقة تعديل المسارات وفهم اتجاهات الريح.

عندما تستغيث البصرة، فلأن الأرض تشعر بأنها تحتضر، وأصحاب ملايين الأقدام التي تمد جذورها في ترابها يشعرون، طيور شط العرب تشعر، وقبائل الآبار النفطية، وجاموس الأهوار، وسعفات النخيل وتمر البرحي وسمك البني والشبوط، فالكارثة لا يشعر بها إلا من يعيشها ويعرف تبعاتها. لا يمكن التفكير بأي إصلاح محتمل للعراق قبل أن تجيب القوى السياسية العراقية عن أسئلة البصرة، وقبل أن يفهم العراقيون كيف يمكن أن تطالب بالإنقاذ مدينة زودت الخزينة العراقية بمعظم مواردها، وتمتلك الحق دستورياً بحصة من ثمن بيع كل برميل نفط، وأخرى من ثمن تجارة موانيء أم قصر وخور الزبير وأبو فلوس، وثالثة من نتاج معابر سفوان والشلامجة؟. واسئلة البصرة لا تتعلق بإعادة اكتشاف الفيزياء الكمية، بل هي ببساطة تتعلق بأموال يجب أن يعرف مصيرها، أقرها الدستور للمدينة الأغنى في العراق، وربما في العالم، في مواردها، والأفقر في واقع حالها.

والإجابة لن تتطلب حشوداً من المحاسبين والمدققين الماليين، بل هي قد تبدأ من تحديد الأحزاب التي أشرفت وما زالت عبر قواها المسلحة على موانئ البصرة ومنافذها، وأصبح لها حصة ثابتة من كل تجارة العراق، وتمتد للحكومات المحلية التي تسلمت المال وأهدرته في مشروعات فاسدة، وصولاً إلى الحكومة المركزية التي فشلت في إعداد خطط كبرى للنهوض بالمدينة التي من المفترض أن تتحول بعد إكمال ميناء الفاو المتعثر، إلى واحدة من أهم مراكز التجارة الدولية، كما تقاعست أمام خنق مياه العراق تركياً وإيرانياً.