العراقي ينتفض – د.ماجد السامرائي

التظاهرات الغاضبة التي انطلقت منذ عدة أيام في وسط وجنوبي العراق ليست كما يسخّفها البعض بالقول إنها موسمية مرتبطة بالمناخ الحار، أو هي مطلبية تتعلق بخدمات الكهرباء والماء الصالح للشرب فحسب، إنما هي انتفاضة شعبية سلمية رافضة لسياسات الحكم ومرتكزات الفساد التي هيمنت على الحكومات منذ 12 عاما، هي انتفاضة ضد سراق مال الشعب الذي حولته الأحزاب الحاكمة إلى واحد من أفقر شعوب العالم، معتقدة أنه رغم ما يصيبه من كوارث بسببها سيظل خاضعا مستسلما محني الرأس.

وتوهمت تلك الأحزاب أنها ما زالت قادرة على اللعب بمقدراته وتركه أسير الإحباط والضياع، تحت شعارات الدين والمذهب، التي سقطت حينما تخلت تلك الزعامات عن حقوق الناس، فالمواطن الشيعي أو السني أو الكردي يريد كما وعدوه، كذباً ودجلا، احترام إنسانيته ومنحه حقوقه في الحياة في بلد من البلدان النفطية الغنية، كانت هذه الزعامات الفاشلة تتذرع بالمرجعية الشيعية بالنجف لحمايتها، لكن هذه المرجعية انتقلت من حالة التخلي عنهم، إلى مرحلة الاصطفاف إلى جانب هموم أبناء الشيعة، ولهذا ساندت التظاهرات الأخيرة.

وسارعت تلك الزعامات المتغطرسة خلف المال والجاه والسلطة إلى تغطية سياساتها الدكتاتورية عن طريق صناعة العدو، فمرة البعثيين ومرة أخرى الإرهاب وداعش ولكن العراقي الشيعي أسقط تلك اللعبة، وحين وجد أن تجديد تلك الهيمنة يتم عبر الانتخابات قاطعها بنسبة 80 بالمئة في الانتخابات الأخيرة.

وقبلها عبرت الجماهير عن غضبها ورفضها وإعلانها مطالب التغيير عبر الإصلاح الجذري الحكومي والسياسي في سلسلة التظاهرات منذ عام 2013 في العاصمة بغداد ومدن العراق الأخرى، لكن رئيس الحكومة حيدر العبادي، الذي جاء للحكم عام 2014 في ظل تلك المطالب، لم يتمكن من تقديم إجراء عملي ملموس في تفكيك إمبراطورية الفساد وزعاماتها، وظل يتحجج بالحرب على تنظيم داعش وأنه قاد حكومة حرب وكأن معاقبة الفاسدين وفضحهم بالأسماء وإحالتهم إلى القضاء وإعادة المليارات المنهوبة تعطل أو تتناقض مع الحرب على الإرهاب، وليست هي مفتاح حل مشكلات الكهرباء والماء والصحة وغيرها، مع أنه دائما ما يكرر في خطاباته أن الحرب على الإرهاب ومقاومة الفساد وجهان لعملة واحدة.

كانت مشكلة العبادي أنه ابن حزب الدعوة الذي يتزعم كل السياسات الظالمة للشعب وللشيعة، ولم يتمكن من مواجهة قادته النافذين في شبكات الدولة ومؤسساتها، وكذلك الزعامات الشيعية الأخرى التي أصبحت إمبراطوريات عائلية ومالكة لميليشيات مسلحة لحمايتها عند الحاجة وقسم منها مدعوم من إيران الراضية والمخططة لانهيار العراق وتدميره بشرا وبنيانا واقتصادا. فهل نستغرب أن تنطلق ثورة الجياع والمحبطين من مدينة النجف مركز الشيعة ومرجعيتها، أو من البصرة مُرضعة العراق وثغره والتي عرف أهلها بالصبر الطويل، لكنهم حينما يثورون تكون ثورتهم قاسية، أو من الناصرية والعمارة الصامدتين بوجه الفقر والمرض والجوع أو بابل، مدينة نبوخذ نصر، مرجعية الشجاعة والحكمة وحضارة التصدي.

المنتفضون والثائرون في تظاهرات مدن الوسط والجنوب أليسوا هم أولئك الشباب العاطلون عن العمل بعد تخرجهم من الجامعات، أليسوا هم من هتفوا يوماً ما لعائلة الحكيم ولمقتدى الصدر ولغيرهما من الزعامات التي كانوا يأملون منها خيرا. ولهذا فإن رد الفعل الثوري يخرج من هؤلاء المحبطين ومن عوائل الشهداء الذين قدموا أبناءهم ثمناً للوطن ولم يعوضهم أحد. مدن الوسط والجنوب الشيعي هي التي تنتفض، وهي ليست مدن الأنبار وصلاح الدين والموصل التي أُخرجت من درب المواجهة السياسية مع السلطة بعد تدميرها، وألصقت بمطالبها المشروعة قبل عام 2014 مختلف تهم الإرهاب ثم الداعشية، فهل يستطيع أحد من أقطاب الزعامات الشيعية اتهام المتظاهرين في النجف والبصرة والناصرية والعمارة بمؤامرة الإرهاب أو داعش، ولهذا فإن قيادات تلك الأحزاب في حرج فسارعت إلى تقمص دور تأييد المظاهرات، فالقاتل يسير في جنازة الضحية كما يقول المثل، وكذلك محاولة تغيير مسار الاحتجاجات عبر ما يسمى بالمندسين في صفوفها، وإذا كانت هناك صحة لما حصل من اختراقات غير سلمية، فهي ليست من قبل المتظاهرين وإنما من تدبير تلك الأحزاب ضمن صراعاتها الحالية حول الحكومة المقبلة، ولا يستبعد أن يكون لإيران إصبع في ذلك.

ما يحصل في مدن وسط وجنوبي العراق انتفاضة حقيقية عبر التظاهرات والاعتصامات وسقط فيها شهداء بسلاح أجهزة السلطة، ونتذكر جميعاً أن ثورة تونس انطلقت حين أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه، وهي عفوية ولا موجّه تنظيميا وسياسيا لها، لأن أحزاب السلطة الحاكمة تضع أي تنظيم سياسي معارض في خانة الإرهاب ولأن الحكومة ورئيسها لا يعترفان بالفشل، كما لم يلجأ حيدر العبادي إلى إقصاء وزراء الكهرباء والصناعة والزراعة والري باعتبارهم واجهة الأزمة أو إعلان استقالة حكومته، وبدلا عن ذلك يديرها بالتدابير الأمنية عن طريق تطويق مناطق التظاهرات، وقطع الإنترنت لمنع التواصل بين المتظاهرين، وتقديم بعض الوعود الجزئية التي تدين سلوك الحكومة وتخصيص 3 مليارات دولار لإعمار البصرة، وكأن المال لم يكن موجوداً إلا حين حانت ساعة الحساب.

الحل الأمني سيقود إلى تداعيات خطيرة خصوصاً في العاصمة بغداد، إذا ما أدخل الحشد الشعبي كأداة لحماية الشارع لصالح الأحزاب النافذة، ولأن حكومة العبادي هي حكومة تصريف أعمال فيبدو أن الحل الحقيقي هو في استقالتها وتشكيل حكومة إنقاذ بقيادة نخبة من العسكريين الوطنيين الذين قاد قسم منهم المعركة ضد داعش، فهم قادرون على ضبط الأمن في البلاد والدعوة إلى انتخابات مبكرة بعد فشل الانتخابات المحلية وبإشراف مباشر من الأمم المتحدة.