العبادي منتحراً – مشرق عباس

لا يمكن المشهد العراقي أن يكون أكثر سوريالية مما هو عليه اليوم، فلا يمكن تصور خروج مواطن عراقي للقول إن الموقف من العقوبات الأميركية على إيران سوف يحدد مصير حكومته. تمنعه نرجسيته الوطنية الراسخة على رغم الأهوال التي شهدها من الطعن ببلاده بهذه الطريقة المهينة، فهو لا يجيد ما يجيده السياسيون وبعض رجال الدين والإعلام، في التنكيل بالعراق والإمعان في إذلاله.

 

الموقف العراقي المقترح الذي يمكن أن يعبر عنه أي مرشح لرئاسة الحكومة، لا يكفي لأن يكون التعاطف مع الشعب الإيراني، ورفض العقوبات من حيث المبدأ، وتعهد عدم التعاطي معها أو المساعدة عليها، بل الأمر يحتاج إلى تعهد الانتحار حفاظاً على حسن الجوار!.
 
الغريب أن أحداً لم يعد يتحدث عن أزمات الخدمات والعجز الإداري والفساد كمعايير للحكومة المقبلة، حتى أن مقتل متظاهرين أبرياء في ساحات الاعتصام في البصرة، ليس انتحاراً لأي حكومة، فالانتحار الوحيد الشرعي المفضي مباشرة إلى كرسي الحكم، هو الزج بالعراق في مواجهة جديدة مع الولايات المتحدة.
لا يخجل السياسيون العراقيون من ترديد عبارة «ان العبادي انتحر سياسياً عندما قرر الالتزام بالعقوبات الأميركية»، مع أنه قال موضحاً أو متراجعاً تحت الضغوط، إن العراق ملتزم عدم التداول مع إيران بعملة الدولار فقط، وإن هذا الالتزام ليس جديداً بل يمتد إلى شهور سابقة.
 
لم يعد حتى لورقة التوت الشهيرة التي حرص الجميع على عدم التفريط بها معنى، فصحيفة إيرانية تصف بصلافة وعنجهية رئيس الوزراء الذي يعد رمزاً سيادياً للعراق، بأنه «قزم خاضع للأميركان»، وممثل المرشد الإيراني من قلب النجف يقول إن «العبادي شخص منهزم»، كما أن 28 نائباً وصلوا البرلمان تحت عباءة العبادي يستعدون لمغادرة تلك العباءة قبل أن تمزقها الرياح الإيرانية.
 
مشهد سوريالي حقاً، لكنه واقعي حد المهزلة، ويكشف بعمق، فداحة الأزمة السياسية العراقية التي تبدأ أولاً من فهم الأشخاص العاملين في السياسة للحدود بين المصالح الشخصية والالتزامات الوطنية التي يتحملون عبئها أمام الشعب العراقي وأمام التاريخ.
 
ليس مهماً في الحقيقة أن يحصل العبادي على ولاية ثانية أو لا، فحكومة المحاصصة التي ترأسها يجب أن توضع تحت المجهر وتحاسب، كما ليس مهماً من يشكل الكتلة الأكبر ومن يختار الرؤساء الثلاثة، بل المهم فعلاً أن يجيب أي مرشح في الليلة الأولى لتوليه السلطة عن السؤال الذي حولته جوقة الطبالين سؤالاً مصيرياً، مع أنه لم يكن كذلك ولن يكون، ومفاده: «كيف ستتصرف مع العقوبات الأميركية ضد إيران اليوم، وربما غداً ضد تركيا؟».
 
أي إجابة مراوغة وغير واضحة لا تعلن بصراحة كسر العراق العقوبات واستخدامه الدولار في تعاملاته الرسمية مع إيران، ستكون إعادة تكرار لموقف «التزام» استخدام مصطلحات جديدة، فبعد الحماسة المنقطعة التي أبداها السياسيون في رفض العقوبات والمطالبة بالدفاع عن إيران، لن يكون بالإمكان القبول من أي رئيس وزراء مقبل بأقل من قطع العلاقات مع الولايات المتحدة وإعلان الحرب ضدها في حال اعتدت على جيراننا، وهذه الخطوة الوحيدة التي يمكن أن تعد أكثر تقدماً في رفض العقوبات من خطوة العبادي نفسه.
 
لنترك كل هذا «العجن» السياسي المكرر جانباً، ونتنبه إلى جوهر ما يحدث في الأروقة السياسية، فلا العلاقة مع واشنطن أو أنقرة أو العرب، ولا العقوبات على إيران، ولا جريمة العراق التي كسرت قلوب عشاق طهران، ولا حتى إن كان هؤلاء عشاقاً فعلاً أو مجرد «زاحفين» على حد وصف الشباب، هي محركات ما يحدث، بل إن المشكلة تتعلق في أساسها بطريقة تشكيل الحكومة المقبلة، والموجة الشعبية العالية الرافضة لإعادة إنتاج آليات تقاسم المناصب والوزارات بين الشركات الحزبية لاستنزاف الدولة، والتي قد تضع الأحزاب في حال فرضت أمام حرج «الانتحار» مالياً.
 
وللتحديد، فإن الانتحار الحقيقي الوحيد في العراق لأي سياسي أو حزب هو إعلان رفضه المبدئي نظام التحاصص المافيوي لمؤسسات الدولة وأموالها ومقدراتها، وما دام لن يقترب من هذا الخط الأحمر فهو بأمان، وما عليه في هذه الأثناء إلا أن يميل حيث تميل الريح.
 
نقلا عن الحياة اللندنية