رأي الكتاب
العراق.. تغوّل قوى اللادولة
إياد العنبر

عندما تغيب ملامح الدولة عن حياة مجتمع ما، نعود إلى مقولة “توماس هوبز” في وصف حالة الطبيعة، أي حالة ما قبل الدولة، التي وصفها بأنّها “حَربُ الجميعِ ضِدَّ الجميع”، إذ في حالة انعدام وجود الدولة -كما يقول هوبز- أو إن لم تكن قوية بما يكفي لِتوفير حمايتنا، قد يلجأ كلُّ فرد إلى قوّته الخاصة بصورةٍ مشروعة وبأسلوبه الخاص بغية حماية نفسه مِن الآخرين. تلك الحالة هي وصف افتراضي لمجتمعات ما قبل الدولة، لكن المواطن العراقي، وفي الألفية الثالثة مِن تاريخ البشرية، يعيشها على أرض الواقع في كيان سياسي يحمل اسم دولة العراق!  

أغلب ظواهر العنف والفوضى التي يعيشها العراق كأنّما عائدة مِن مقابر ما قبل الدولة، فالنزعات العشائرية التي تستعرض بأسلحتها المتوسطة والخفيفة باتت خبرا عاديا تتناقله وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وغياب تام لِتطبيق القانون في مفاصل الحياة العامة، وغياب أبسط متطلبات تنظيم المجال العام. هل يمكن لأيّ شخص يقرأ المقال مِن خارج العراق، أن يتخيّل أنَّ المنطقة الوحيدة التي تعمل فيها إشارات المرور لِتنظيم سير المركبات هي المنطقة الخضراء وشوارع قليلة جدّاً في بغداد؟! 

عندما تعيش في ظلّ اللادولة، لا تبقى ملامح لِلمستقبل لك أو لِلأجيال اللاحقة، ولذلك تبقى تحنّ إلى الماضي عسى أن تجد عزاء لحالة التردي والنكوص نحو الفوضى، ومحنة العراقيين مع لامبالاة الطبقة السياسية بضياع ملامح الدولة، وأنّهم وصلوا لمرحلة اليأس مِن استعادة الدولة؛ لأنَّ ليس من المنطقي أن يكون بناء الدولة واستعادة هيبتها وسيادتها على يد مَن عملوا على قتلها وتمزيق بقايا ركائزها. 

لم تحترف الطبقة السياسية وزعامتها في العراق إلا في ترسيخ ثلاث ركائز قضت على روح الدولة وأصابت كيانها. الركيزة الأولى كانت سياسة تغييب مفهوم الأمّة العراقية والمواطن العراقي، واستبدلتها بمفاهيم حقوق الطائفة والقومية والمتاجرة بهذا العنوان في كتابة الدستور وتوزيع المناصب العليا. أمّا الثانية، فهي تحويل موارد الدولة ومؤسساتها إلى اقطاعيات سياسية لهذا الزعيم السياسي أو لِذلك الحزب، وتمَّ شرعنة الفساد السياسي والمالي والإداري، ومن ثمَّ باتت موارد الدولة تجيَّر لِصالح البقاء في السلطة وإدامة النفوذ. والركيزة الثالثة التي أصابات قلبَ الدولة هي إلغاء كل ما يتعلّق بمفاهيم سيادة الدولة، وباتت التدخلات الخارجية والإقليمية مبررَّة بدعاوى الدفاع عن هذا المكوّن الطائفي أو القومي ولحماية حقوقه. 

بالمقابل، عملت الحكومات المتعاقبة على تسهيل مهمّة قوى اللادولة في التغوّل على الدولة والمجتمع. إذ بدأت بمشروع هيمنة حزب رئيس الوزراء على المراكز المهمّة في إدارة الدولة، مِن دون مراعاة لمعايير الكفاءة، فالمبدأ الذي رسخه رؤساء الحكومات السابقة هو الولاء وتشكيل حاشية مقرَّبة تتولّى زمام القيادة، ولا مكان لمعيارِ الكفاءة والمهنيّة. وفيما بعد أصبحت مهمّة الحكومة توزيع مغانم السلطة على الفرقاء السياسيين لِضمان بقائها بالمنصب، وبالنتيجة بات مَن يأتي بالحكومات هي زعامات قوى اللادولة التي أصبحت تبحث عن حكومةٍ وظيفتها الأساس عدم المساس بمغذيّات بقاء قوّة ونفوذ الجماعات الموازية لِلدولة.  

اللادولة في العراق لا تنحصر ملامحها في سيطرة المليشيات وغياب القانون وسيطرة المافيات السياسية، وإنّما يتمّ تقزيم الدولة عندما يبدأ الصراع بين زعامات سياسية تريد تمركز القرار السياسي في يدها وإقصاء خصومها، ليس بالطرق الديمقراطية، وإنّما بالاستئثار بمراكز السلطة والنفوذ، وبالنتيجة كانت الضحيّة الأولى هي الدولة وعملية التحوّل نحو الديمقراطية. لذلك كانت أبرز نتائج الصراعات السياسية، ديموقراطية متسربلة بالدَّم، لا انتقالاً سلساً نموذجياً نحو بناء دولة المؤسسات. 

تغوّل قوى اللادولة سببه نرجسية الزعامات السياسية، التي تعمل على تقزيم الدولة بصفقاتها التي تلغي كلَّ الاعتبارات السياسية لِلعملية الانتخابية، ولِدور المؤسسات السياسية وحتّى التوقيتات الدستورية. فالدولة تعمل على وفق مبدأ المركزية التي تعني تركيز القرار السياسي في هيئات محدَّدة لا في شخص الزعيم السياسي. والانتخابات هي مدخل لِشرعية نظام ديمقراطيّ يعتمد النقاش المفتوح داخل الهيئات لِتحديد السياسة وتحديد القرار وموازنة المصالح المتنافرة في المجتمع، وليس كسر الإرادات بين الفرقاء السياسيين، أو فرض إرادات مِن قبل القوى التي خسرت مقاعدها في الانتخابات أو التي تريد البقاء للمشاركة في الحكومة عن طريق الثلث المعطّل لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية.  

ويغذّي السياسيون بسذاجة مقوّمات اللادولة، عندما يكون معيار براءة الخصوم السياسية مِن تهم الإرهاب أو الفساد ليس قرارات السلطة القضائية، بل الوساطات الخارجية أو مصالح التحالف السياسية، التي يمكن عن طريقها أن يتحوّل المتهم بالتآمر مع الجماعات الإرهابية والمطلوب إلى العدالة والذي كان يرفع شعار (قادمون يا بغداد)، بريئاً مِن دون أن يُعرض على القضاء أو يُقدّم إلى المحاكمة!  

تغوّل قوى اللادولة، حتّى وإن كان الآن في مصلحةِ الفرقاء السياسيين المتصارعين على توزيع الموارد السياسية والمادية والرمزية، ويزدهر في ظلّ تخاذل الحكومات عن القيام بوظائفها السيادية، لكنّه في النتيجة سيكون السبب الرئيس في نهاية هذا النظام السياسي. فتوسّع جماعات الفقر والفئات المهمَّشة والهامشية الميّالة إلى العنف وتسوية التظلمات بالسلاح، كلُّ ذلك قد يدفع إلى الاعتقاد بأنَّ غياب الدولة هو فرصة حقيقية للاقتصاص مِن ظالميها في نهاية المطاف، سواء أكان ذلك بجهود داخلية أو بدعم خارجي.