عند تجار السوق قاعدة ذهبية: إذا كثُر الرطب، رخص ثمنه. لكننا اليوم لا نتحدث عن موسم تمور، بل عن سلالة جديدة من “السادة الرؤساء” الذين تكاثروا في المشهد العراقي تكاثر الذباب على فاكهة فاسدة. حتى بات لقب “السيد الرئيس” أرخص من كيس نايلون في سوق الشورجة.
في كل زقاق، “معالي”، في كل محلة، “سعادة”، وفي كل مكتب متهالك، “رئيس”. تتجول بين القنوات فتصطدم بألقاب منمقة: “سيادة النائب”، “سيادة المستشار”، “فخامة المنقذ”، “دولة الفهيم”… أما “حضرة الفاشل”، فيعتلي المنابر متحدثًا عن الوطنية كأنه من كتب دستور جمهورية افلاطون، بينما هو بالكاد يفرّق بين الموازنة والموز.
تخيل نفسك تمشي في أحد شوارع العاصمة، فتُصادف خمسة “رؤساء”: اثنان منهم مطلوبان للقضاء، الثالث تاجر في سوق النخاسة السياسية، الرابع صعد بالباراشوت الحزبي، أما الخامس، فهو “رئيس لجنة عليا” لا يعلم أحد طبيعة عملها، سوى أنها تلتهم موازنة محافظة كاملة دون نتيجة تُذكر.
صرنا نعيش تخمة الألقاب، حيث تحوّل “الرئيس” إلى موظف علاقات عامة لنفسه، يبيع الوهم بخطاب، ويشتري التصفيق بكيلو رز وعلبة زيت.
يظهر علينا أحدهم في مؤتمر صحفي، ببدلة مستأجرة وربطة عنق صينية، يتحدث بلغة خشبية عن “مصلحة المواطن”، بينما في الحقيقة لا يعرف الفرق بين المواطن والمجتمع المدني، ويظن أن “التنمية المستدامة” ماركة سيارات!
ثم ينام، ويستيقظ، ويتحرك وفق إشارة هاتف إيراني، أو مكالمة تركية، أو حُلم خليجي، ويظن نفسه زعيماً قومياً لأنه فقط يتقن الصراخ أكثر من غيره.
لكن المأساة لا تقف عند هؤلاء. المشكلة فينا أيضًا، نحن الذين نُردد كالببغاوات: “قال السيد الرئيس”، “صرّح السيد الرئيس”، “استقبل السيد الرئيس”… دون أن نسأل: ماذا قال؟ ولماذا صرّح؟ ومَن الذي استقبله أصلاً؟ وهل كان الكلام يساوي الهواء الذي أُهدر لإخراجه؟
“السيد الرئيس” في هذا البلد لم يعد رمزاً للسلطة أو عنواناً للهيبة. بل تحول إلى كود خصم مستهلك، يتداوله الجميع، لكن لا أحد يستفيد منه.
ولو فُتحت السوق السوداء للألقاب، لوجدت وفرة في “رئيس لجنة عليا”، “مبعوث خاص”، “مستشار استراتيجي”… وكلها تُمنح وفق معادلة بسيطة: الترشيح الانتخابي + وعد بالتبعية + صورة في حملة انتخابية مع ابن الجيران.
ومن سخرية القدر أن يُحكم العراق – وهو بلد عمره من عمر الحضارة – بـأيدي النطيحة والمتردية، ممن اتخذوا من كبيرهم المرياع قدوة، في متاهاتٍ رسمتها أيادٍ أعجمية، بحبر من دماء أبناء هذا الوطن… وطنٌ ما زال ينزف من سكاكين غدر محلية الصنع.
في بلاد تكثر فيها الرؤوس وتقل فيها العقول، يصبح “السيد الرئيس”… مجرد ملصق مبلل على جدار وطنٍ ينهار.